فصل: بقية فتح الأندلس

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


 دولة عبد المؤمن خليفة المهدي

الخبر عن دولة عبد المؤمن خليفة المهدي والخلفاء الأربعة من بيته ووصف لحالهم ومصائر أمورهم لما هلك المهدي سنة اثنتين وعشرين كما ذكرناه وقد عهد بأمره من بعده لكبير صحابته عبد المؤمن بن علي الكومي المقدم ذكره ونسبه عند ذكر قومه فقبر بمسجده لصق داره من تينملل‏.‏ وخشي أصحابه من افتراق الكلمة وما يتوقع من سخط المصامدة ولاية عبد المؤمن لكونه من غير جلدتهم فأرجأوا الأمر إلى أن تخالط بشاشة الدعوة قلوبهم وكتموا موته زعموا ثلاث سنين يموهون بمرضه ويقيمون سنته في الصلاة والحزب الراتب‏.‏ ويدخل صحابته إلى البيت كأنه اختصهم بعبادته فيجلسون حفافي قبره ويتفاوضون في شؤونهم بمحضر أخته زينب ثم يخرجون لإنفاذ ما أبرموه ويتولاه عبد المؤمن بتسليمهم‏.‏ حتى إذا استحكم أمرهم وتمكنت الدعوة من نفوس كافتهم كشفوا حينئذ القناع عن حالهم وتمالأ من بقي من العشرة على تقديم عبد المؤمن‏.‏ وتولى كبر ذلك الشيخ أبو حفص وأراد هنتاتة وسائر المصامدة عليه فأظهروا للناس موت المهدي وعهده لصاحبه وانقياد بقية أصحابه لذلك‏.‏ وروى يحيى بن يغمور عن الإمام أنه يقول في دعائه إثر صلواته‏:‏ اللهم بارك لي في الصاحب الأفضل فرضي الكافة وانقادوا وأجمعوا على بيعته بمدينة تينملل سنة أربع وعشرين فقام بأمر الموحدين وأبعد في الغزوات فصبح تادلا وأصاب منهم‏.‏ ثم غزا درعة واستولى عليها سنة ست وعشرين‏.‏ ثم غزا تاشعبوت وافتتحها وقتل واليها أبا بكر بن مزروال ومن كان معه من قومه غمارة بني ونام وبني مزردع‏.‏ ثم تسابق الناس إلى دعوتهم أفواجاً وانتقض البرابر في سائر أقطار المغرب على لمتونة وسرح علي بن يوسف ابنه تاشفين لقتالهم سنة ثلاث وثلاثين فجاءهم من ناحية أرض السوس واحتشد معه قبائل كزولة وجعلهم في مقدمته فلقيهم الموحدون بأوائل جبلهم وهزموهم‏.‏ ورجع تاشفين ولم يلق حرباً ودخل كزولة من بعدها في دعوة الموحدين‏.‏ وأجمع عبد المؤمن على غزو بلاد المغرب فعزا غزاته الطويلة منذ سنة أربع وثلاثين إلى سنة إحدى وأربعين ولما يراجع فيها تينملل حتى انقضت بالفتح والاستيلاء على المغربين خرج إليها من تينملل وخرج تاشفين بعساكره يحاذيه في البسيط والناس يفرون منه إلى عبد المؤمن وهو ينتقل في الجبال في سعة من الفواكه للأكل والحطب للدفء إلى أن وصل إلى جبال غمارة واشتعلت نار الفتنة والغلاء بالمغرب وامتنعت الرعايا من المغرم وألح الطاغية على المسلمين بالعدوة‏.‏ وهلك خلال ذلك علي بن يوسف أمير لمتونة وملك العدوتين سنة سبع وثلاثين وخمسمائة وولي أمرهم تاشفين ابنه وهو في غزاته هذه وقد أحيط به‏.‏ وحدث بعد موت أبيه فتنة بين لمتونة ومسوفة ففزع أمراء مسوفة مثل براز بن محمد ويحيى بن تاكغت ويحيى بن إسحاق المعروف بانكمار وكان والي تلمسان‏.‏ ولحقوا بعبد المؤمن فيمن إليهم من الجملة ودخلوا في دعوته ونبذ إليهم لمتونة العهد وإلى سائر مسوفة‏.‏ واستمر عبد المؤمن على حاله فنازل سبتة وامتنعت عليه وتولى كبر دفاعه عنها القاضي عياض الشهير الذكر‏.‏ كان رئيسها يومئذ بدينه وأبوته ومنصبه‏.‏ ولذلك سخطته الدولة آخر الأيام حتى مات مغرباً عن سبتة بتادلا مستعملا في خطة القضاء بالبادية وتمادى عبد المؤمن في غزاته إلى جبال غياثة وبطوية فافتتحها ثم نزل ملوية فافتتح حصونها‏.‏ لنظر يوسف بن وانودين وابن يرمور فخرج إليهم محمد بن يحيى بن فانوا عامل تلمسان فيمن معه من عساكر لمتونو وزناتة فهزمهم الموحدون وقتل ابن فانوا‏.‏ وانفض عسكر زناتة ورجعوا إلى بلادهم‏.‏ وولى ابن تاشفين على تلمسان أبا بكر بن مزدلي ووصل إلى عبد المؤمن بمكانه من الريف أبو بكر بن ماخوخ ويوسف بن يدر أمراء بني ومانوا فبعث معهم ابن يغمور وابن وانودين في عسكرهم من الموحدين فأثخنوا في بلاد بني عبد الواد وبني يلومي سبياً وأسراً وأمدتهم عساكر لمتونة ومعهم الزبرتير قائد الروم فنزلوا منداس واجتمعت عليهم زناتة في بني يلومي وبني عبد الواد وشيخهم حمامة بن مطهر وبني ينكاسن وبني ورسيفان وبني توجين فأوقعوا ببني ومانوا واستنقذوا غنائمهم من أيديهم‏.‏ وقتلوا أبا بكر بن ماخوخ في ستمائة من قومه‏.‏ وتحصن الموحدون وابن وانودين بجبال سيرات ولحق تاشفين بن ماخوخ بعبد المؤمن صريخاً على لمتونة وزناتة فارتحل معه إلى تلمسان‏.‏ ثم أجاز إلى سيرات وقصد محلة لمتونة وزناتة فأوقع بهم ورجع إلى تلمسان فنزل ما بين الصخرتين من جبل بني ورنيد‏.‏ ونزل تاشفين باصطفصف ووصل مدده صنهاجة من قبل يحيى بن العزيز صاحب بجاية لنظر طاهر بن كباب من قواده أمدوا به تاشفين وقومه لعصبية الصنهاجية‏.‏ وفي يوم وصوله أشرف على معسكر الموحدين وكان يدل بإقدام وبأس فزارى بلمتونة وأميرهم لقعودهم عن مناحزة الموحدين وقال‏:‏ إنما جئتكم لأمكنكم من صاحبكم عبد المؤمن هذا وأرجع إلى قومي فامتعض تاشفين لكلمته وأذن له في المناجزة فحمل على القوم فركبوا وصمموا للقائه فكان آخر العهد به وبعسكره‏.‏ وكان تاشفين بعث من قبل ذلك قائده على الروم الزبرتير في عسكر ضخم كما قلناه فأغار على بني سنوس وزناتة الذين كانوا في بسيطهم ورجع بالغنائم فاعترضه الموحدون من معسكر عبد المؤمن فقتلوهم وقتل الزبرتير وصلب‏.‏ ثم بعث بعثاً آخر إلى بلاد بني ومانوا فلقيهم تاشفين بن ماخوخ ومن كان معه من الموحدين وأوقعوا بهم‏.‏ واعترضوا عسكر بجاية عند رجوعهم فنالوا منهم أعظم النيل‏.‏ وتوالت هذه الوقائع على تاشفين فأجمع الرحلة إلى وهران وبعث ابنه إبراهيم ولي عهده إلى مراكش في جماعة من لمتونة وبعث كاتباً معه أحمد بن عطية‏.‏ ورحل هو إلى وهران سنة تسع وثلاثين وأقام عليها شهراً ينتظر قائد أسطوله محمد بن ميمون إلى أن وصله من المرية بعشرة أساطيل فأرساها قريباً من معسكره‏.‏ وزحف عبد المؤمن من تلمسان وبعث في مقدمته الشيخ أبا حفص عمر بن يحيى‏.‏ وبني ومانوا من زناتة فتقدموا إلى بلاد بني يلومي وبنى عبد الواد وبني ورسيفن وبني توجين وأثخنوا فيهم حتى دخلوا في دعوتهم‏.‏ ووفد على عبد المؤمن برؤسائهم وكان منهم سيد الناس ابن أمير الناس شيخ بني يلومي فتلقاهم بالقبول وسار في جموع الموحدين إلى وهران ففجعوا لمتونة بمعسكرهم ففضوهم ولجأ تاشفين إلى رابطة هنالك فأحدقوا بها وأضرموا النيران حولها حتى غشيهم الليل فخرج تاشفين من الحصن راكباً على فرسه فتردى من بعد حافات الجبل وهلك لسبع وعشرين من رمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة‏.‏ وبعث برأسه إلى تينملل‏.‏ ولجأ فل العسكر‏.‏ إلى وهران فانحصروا مع أهلها‏.‏ حتى جهدهم العطش ونزلوا جميعاً على حكم عبد المؤمن يوم الفطر من تلك السنة‏.‏ وبلغ خبر مقتل تاشفين إلى تلمسان مع فل لمتونة وفيهم أبو بكر بن ويحيى وسير بن الحاج وعلي بن فيلو في آخرين من أعيانهم ففر معهم من كان بها من لمتونة‏.‏ وقدم عبد المؤمن فقتل من وجد بتاكرارت بعد أن كانوا بعثوا ستين من وجوههم فلقيهم يصلين من مشيخة بني عبد الواد فقتلهم جميعاً‏.‏ ولما وصل عبد المؤمن إلى تلمسان استباح أهل تاكرارت لما كان أكثرهم من الحشم وعفا عن أهل تلمسان ورحل عنها لسبعة أشهر من فتحها بعد أن ولى عليها سليمان بن محمد بن وانودين وقيل يوسف بن وانودين‏.‏ وفيما نقل بعض المؤرخين أنه لم يزل محاصراً لتلمسان والفتوح ترد عليه وهناك وصلته بيعة سجلماسة‏.‏ ثم اعتزم على الرحيل إلى المغرب وترك إبراهيم بن جامع محاصراً لتلمسان فقصد فاس سنة أربعين وقد تحصن بها يحيى الصحراوي‏.‏ ولحق بها من فل تاشفين من تلمسان فنازلها عبد المؤمن وبعث عسكراً لحصار مكناسة ثم رحل في أتباعه وترك عسكراً من الموحدين على فاس وعليهم الشيخ أبو حفص وأبو إبراهيم من صحابة المهدي العشرة فحاصروها سبعة أشهر‏.‏ ثم داخلهم ابن الجياني مشرف البلد وأدخل الموحدين ليلا وفر الصحراوي إلى طنجة وأجاز منها ابن غانية بالأندلس وبلغ خبر فاس إلى عبد المؤمن وهو بمكانه من حصار مكناسة فرجع إليها وولى عليها إبراهيم بن جامع وولى على حصار مكناسة يحيى بن يغمور ورحل إلى مراكش وكان إبراهيم بن جامع لما افتتح تلمسان ارتحل إلى عبد المؤمن وهو محاصر لفاس فاعترضه في طريقه المخضب بن عسكر أمير بني مرين بادسف ونالوا منه ومن رفقته فكتب عبد المؤمن إلى يوسف بن وانودين بن عامل تلمسان أن يجهز إليهم العساكر فبعثها صحبة عبد الحق بن منغفاد شيخ بني عبد الواد فأوقعوا ببني مرين وقتل المخضب أميرهم‏.‏ ولما ارتحل عبد المؤمن من فاس إلى مراكش وصلته في طريقه بيعة أهل سبتة فولى عليهم يوسف بن مخلوف من مشيخة هنتاتة ومر بسلا فافتتحها بعد مواقفة قليلة ونزل منها بدار ابن عشرة ثم تمادى إلى مراكش‏.‏ وسرح الشيخ أبا حفص لغزو برغواطة فأثخن فيهم ورجع‏.‏ ولقيه في طريقه ووصلوا جميعاً إلى مراكش وقد ضموا إليها جموع لمطة فأوقع بهم الموحدون وأثخنوا فيهم قتلا واكتسحوا أموالهم وظعائنهم‏.‏ وأقاموا على مراكش سبعة أشهر وأميرهم إسحاق بن علي بن يوسف بايعوه صبياً صغيراً عند بلوغ خبر أبيه‏.‏ ولما طال عليهم الحصار وجهدهم الجوع برزوا إلى مدافعة الموحدين فانهزموا وتتبعهم الموحدون بالقتل واقتحموا عليهم المدينة في أخريات شوال سنة إحدى وأربعين وقتل عامة الملثمين‏.‏ ونجا إسحاق في جملته وأعيان قومه إلى القصبة حتى نزلوا على حكم الموحدين وأحضر إسحاق بين يدي عبد المؤمن فقتله الموحدون بأيديهم وتولى كبر ذلك أبو حفص بن واكاك منهم وامحى أثر الملثمين واستولى الموحدون على جميع بلاد المغرب‏.‏ ثم خرج عليهم بناحية السوس ثائر من سوقة سلا يعرف محمد بن عبد الله بن هود وتلقب بالهادي وظهر في رباط ماسة فأقبل إليه الشرار من كل جانب وانصرفت إليه وجوه الأغمار من أهل الآفاق وأخذ بدعوته أهل سجلماسة ودرعة وقبائل دكالة وركراكة وقبائل تامسنا وهوارة‏.‏ وفشت ضلالته في جميع المغرب فسرح إليه عبد المؤمن عسكراً من الموحدين لنظر يحيى انكمار المسوفي النازع إليه من إيالة تاشفين بن علي‏.‏ ولقي هذا الثائر المآسي ورجع منهزماً إلى عبد المؤمن فسرح الشيخ أبا حفص عمر بن يحيى وأشياخ الموحدين واحتفل في الاستعداد فنهضوا إلى رابطة ماسة‏.‏ وبرز إليهم الثائر في نحو ستين ألفاً من الرجال وسبعمائة من الفرسان فهزمهم الموحدون وقتل داعيتهم في المعركة مع أكثر أتباعه وذلك في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين‏.‏ وكتب الشيخ أبو حفص بالفتح إلى عبد المؤمن من إنشاء أبي جعفر بن عطية الشهير الذكر كان أبوه أبو أحمد كاتباً لعلي بن يوسف وابنه تاشفين وتحصل في قبضة الموحدين فعفا عنه عبد المؤمن‏.‏ ولما نزل على فاس اعتزم أبو أحمد هذا على الفرار فقبض عليه في طريقه واعتذر فلم يقبل عذره وقتل‏.‏ وكان ابنه أحمد كاتباً لإسحاق بن علي بمراكش فشمله عفو السلطان فيمن شمله من ذلك الفل وخرج في جملة الشيخ أبي حفص في وجهته هذه وطلبه للكتاب في ذلك فأجاد واستحسن كتابه عبد المؤمن لما وقف عليه فاستكتبه أولا‏.‏ ثم ارتفع عنده بخلاله فاستوزره وبعد في الدولة صيته وقاد العساكر وجمع الأموال وبذلها ونال من الرتبة عند السلطان ما لم ينله أحد في دولتهم إلى أن دلت عقارب السعاية إلى مهاده الوثير فكان فيها حتفه ونكبه الخليفة سنة ثلاث وخمسين وقتله بمحبسه حسبما هو مشهور‏.‏ ولما انصرف الشيخ أبو حفص من غزاة ماسة أراح بمراكش أياماً‏.‏ ثم خرج غازياً إلى القائمين بدعوة الماسي بجبال درن فأوقع بأهل نفيس وهيلانة وأثخن فيهم القتل والسبي حتى أذعنوا بالطاعة ورجع‏.‏ ثم خرج إلى هسكورة وأوقع بهم وافتتح معاقلهم وحصونهم‏.‏ ثم نهض إلى سجلماسة فاستولى عليها ورجع إلى مراكش ثم خرج ثالثة إلى برغواطة فحاربوه مدة ثم هزموه‏.‏ واضطرمت نار الفتنة في المغرب وانتقض أهل سبتة وأخرجوا يوسف بن مخلوف التينمللي وقتلوه ومن كان معه من الموحدين وأجاز القاضي عياض البحر إلى يحيى بن علي بن غانية المسوفي الوالي بالأندلس فلقيه بالخضراء وطلب منه والياً على سبتة فبعث معه يحيى بن أبي بكر الصحراوي الذي كان بفاس منذ منازلة عبد المؤمن لها‏.‏ وذكرنا أنه لحق بطنجة فأجاز وبعثه ابن غانية إلى سبتة مع القاضي عياض كما ذكرناه‏.‏ وقام بأمرها ووصل يده بالقبائل الناكثة لطاعة الموحدين من برغواطة ودكالة على حين هزيمتهم للموحدين كما ذكرناه‏.‏ ولحق بهم من مكانه بسبتة وخرج إليهم عبد المؤمن بن علي سنة اثنين وأربعين فدوخ بلادهم واستأصل شأفتهم حتى انقادوا للطاعة وتبرأوا من يحيى الصحراوي ولمتونة ورجع إلى مراكش لستة أشهر من خروجه ووصلته الرغبة من مشيخة القبائل في يحيى الصحراوي فعفا عنه وصلحت أحوال المغرب‏.‏ وراجع أهل سبتة طاعتهم فتقبل منهم وكذلك أهل سلا فصفح عنهم وأمر بهم سورهم‏.‏ فتح الأندلس فتح الأندلس وشؤونها ثم صرف عبد المؤمن نظره إلى الأندلس وكان من خبرها أنه اتصل بالملثمين

 مقتل تاشفين بن علي ومنازلة الموحدين مدينة فاس

وكان علي بن عيسى بن ميمون قائد أسطولهم قد نزع طاعة لمتونة وانتزى بجزيرة قادس فلحق بعبد المؤمن بمكانه من حصار فاس ودخل في دعوته وخطب له بجامع قادس أول خطبة خطبت لهم بالأندلس عام أربعين وخمسمائة‏.‏ وبعث أحمد بن قسي صاحب مرتلة ومقيم الدعوة بالأندلس أبا بكر بن حبيس رسولا إلى عبد المؤمن فلقيه على تلمسان وأدى كتاب صاحبه فأنكر ما تضمنه من النعت بالمهدي ولم يجاوب‏.‏ وكان سداري بن وزير صاحب بطليوس وباجة وغرب الأندلس قد تغلب على أحمد بن قسي هذا وغلبه على مرتلة فأجاز أحمد بن قسي البحر إلى عبد المؤمن بعد فتح مراكش لمداخلة علي بن عيسى بن ميمون ونزل بسبتة فجهزه يوسف بن مخلوف ولحق بعبد المؤمن ورغبه في ملك الأندلس وأغراه بالملثمين فبعث معه عساكر الموحدين لنظر براز بن محمد المسوفي النازع إلى عبد المؤمن من جملة تاشفين وعقد له على حرب من بها من لمتونة والثوار وأمده بعسكر آخر لنظر موسى بن سعيد وبعده بعسكر آخر لنظر عمر بن صالح الصنهاجي ولما أجازوا إلى الأندلس نازلوا أبا الغمر بن عزون من الثوار بشريش وكانت له مع رندة‏.‏ ثم قصدوا لبلة وبها من الثوار يوسف بن أحمد البطورجي فأعطاهم الطاعة ثم قصدوا مرتلة وهي تحت الطاعة لتوحيد صاحبها أحمد بن قسي‏.‏ ثم قصدوا شلب فافتتحوها وأمكنوا منها ابن قسي‏.‏ ثم نهضوا إلى باجة وبطليوس فأطاعهم صاحبها سداي بن وزير‏.‏ ثم رجع براز في عسكر الموحدين إلى مرتلة حتى انصرم فصل الشتاء فخرج إلى منازلة إشبيلية فأطاعه أهل طلياطة وحصن القصر واجتمع إليه سائر الثوار وحاصروا إشبيلية براً وبحراً إلى أن اقتحموها في شعبان سنة إحدى وأربعين‏.‏ وفر الملثمون بها إلى قرمونة وقتل من أدرك منهم‏.‏ وأنى القتل على عبد الله بن القاضي أبي بكر بن العربي في هيعة تلك الدخلة من غير قصد‏.‏ وكتبوا بالفتح إلى عبد المؤمن بن علي‏.‏ وقدم عليه وفدهم بمراكش يقدمهم القاضي أبو بكر فتقبل طاعتهم وانصرفوا بالجوائز والإقطاعات لجميع الوفد سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة‏.‏ وهلك القاضي أبو بكر في طريقه ودفن بمقبرة فاس‏.‏ وكان عبد العزيز وعيسى أخوا المهدي من مشيخة العسكر بإشبيلية فساء أثرهما في البلد واستطالت أيديهما على أهله واستباحوا الدماء والأموال‏.‏ ثم اعتزما على الفتك بيوسف البطروجي صاحب لبلة فلحق ببلده وأخرج الموحدين الذين بها وحول الدعوة عنهم‏.‏ وبعث إلى طلياطة وحصن القص ووصل بالملثمين الذين كانوا بالعدوة وارتد ابن قسي في مدينة شلب وعلي بن عيسى بن ميمون بجزيرة قادس ومحمد بن علي بن الحجام بمدينة بطليوس‏.‏ وثبت أبو الغمر بن عزون على طاعة الموحدين بشريش ورندة وجهاتها‏.‏ وتغلب ابن غانية على الجزيرة الخضراء وانتقض أهل سبتة كما ذكرناه وضاقت أحوال الموحدين بإشبيلية فخرج منها عيسى وعبد العزيز أخوا المهدي وابن عمهما يصليتن بمن كان معهم‏.‏ ولحقوا بجبل بيستر جاءهم أبو الغمر بن عزون واتصلت أيديهم على حصار الجزيرة حتى افتتحوا وقتلوا من كان بها من لمتونة ولحق أخوا المهدي بمراكش وبعث عبد المؤمن على إشبيلية يوسف بن سليمان في عسكر من الموحدين وأبقى براز بن محمد على الجباية فخرج يوسف ودوخ أعمال البطروجي بلبلة وطلياطة وعمل ابن قسي بشلب ثم أغار على طلبيرة وأطاعه عيسى بن ميمون صاحب شنتمرية وغزا معهم وأرسل محمد بن علي الحجام صاحب بطليوس بهداياه فتغلبت ورعيت له ورجع يوسف إلى إشبيلية‏.‏ وفي أثناء ذلك استغلظ الطاغية على يحيى بن علي بن غانية بقرطبة ولج على جهاته حتى نزل له عن بياسة وأبدة وتغلب على الأشبونة وطرطوشة ولاردة وأفراغة وشنتمرية وغيرها من حصون الأندلس وطالب ابن غانية بالزيادة في ضريبته أو الإفراج له عن قرطبة فراسل ابن غانية براز بن محمد واجتمعا بأسجة وضمن له براز إمداد الخليفة على أن يتخلى عن قرطبة وقرمونة ويدال منها بجيان فرضي بذلك وتم العقد ووصل خطاب عبد المؤمن بإمضائه فارتحل ابن غانية إلى جيان ونازله الطاغية بها فغدر بأقماطه واعتقلهم بقلعة ابن سعيد وأفرج الطاغية عن جيان ولحق هو بغرناطة وبها ميمون بن بدر اللمتوني في جماعة من المرابطين قصده ابن غانية ليحمله على مثل حاله مع الموحدين فكان مهلكه بها بشعبان سنة ثلاث وسبعين وقبره بها معروف لهذا العهد‏.‏ وانتهز الطاغية فرصته في قرطبة فزحف إليها ودفع الموحدون بإشبيلية أبا الغمر بن عزون لحمايتها ووصل إليه مدد يوسف البطروجي من لبلة‏.‏ وبلغ الخبر عبد المؤمن فبعث إليها عسكراً من الموحدين لنظر يحيى بن يغمور‏.‏ ولما دخلها أفرج عنها الطاغية لأيام من مدخله وبادر الثوار إلى يحيى بن يغمور في طلب الأمان من عبد المؤمن‏.‏ ثم تلاحقوا به بمراكش فتقبلهم وصفح لهم ونهض إلى مدينة سلا سنة خمس وأربعين‏.‏ واستدعى منها أهل الأندلس فوفدوا عليه وبايعوه جميعاً وبايعه الرؤساء من الثوار على الانخلاع من الأمر مثل‏:‏ سداراي بن وزير صاحب باجة ويابورة والبطروجي صاحب لبلة وابن عزون صاحب شريش ورندة وابن الحجام صاحب بطلوس وعامل ابن منيب صاحب طابيرة‏.‏ وتخلف ابن قسي وأهل شلب عن هذا الجمع فكان سبباً لقتله من بعد‏.‏ ورجع عبد المؤمن إلى مراكش وانصرف أهل الأندلس إلى بلادهم واستصحب الثوار فلم يزالوا بحضرته‏.‏

 فتح إفريقية

فتح إفريقية وشؤونها ثم بلغ عبد المؤمن ما هي عليه إفريقية من اختلاف الأمراء واستطالة العرب عليها بالعيث والفساد وأنهم حاصروا مدينة القيروان وأن موسى بن يحيى الرياحي المرداسي دخل مدينة باجة وملكها فأجمع الرحلة إلى غزو إفريقية بعد أن شاور الشيخ أبا حفص وأبا إبراهيم وغيرهما من المشيخة فوافقوه‏.‏ وخرج من مراكش سنة ست وأربعين مورياً بالجهاد حتى انتهى إلى سبتة واستوضح أحوال أهل الأندلس ثم رحل عن سبتة مورياً بمراكش وأغذ السير إلى بجاية فدخل الجزائر على حين غفلة وخرج إليه الحسن بن علي صاحب المهدية فصحبه واعترضته جيوش صنهاجة بأم العلو فهزمهم وصبح بجاية من الغد فدخلهما‏.‏ وركب يحيى بن العزيز البحر في أسطولين كان أعدهما لذلك واحتمل فيها ذخائره وأمواله ولحق بقسطنطينة إلى أن نزل بعد ذلك عنها على أمان عبد المؤمن واستقر بمراكش تحت الجراية والعناية إلى أن هلك رحمه الله‏.‏ ثم سرح عبد المؤمن عساكر الموحدين وعليهم ابنه عبد الله إلى القلعة وبها جوشن بن العزيز في جموع صنهاجة فاقتحمها واستلحم من كان بها منهم وأضرم النار ساكنها وقتل جوشن‏.‏ ويقال إن القتلى بها كانوا ثمانية عشر ألفاً وامتلأت أيدي الموحدين من الغنائم والسبي وبلغ الخبر إلى العرب بإفريقية من الأثبج وزغبة ورياح وقسرة فعسكروا بظاهر باجة وتدامروا على الدفاع عن ملكهم يحيى بن العزيز وارتحلوا إلى سطيف‏.‏ وزحف إليهم عبد الله بن عبد المؤمن في الموحدين الذين معه‏.‏ وكان عبد المؤمن قد قفل إلى المغرب ونزل متيجة فلما بلغه الخبر بعث المدد لابنه عبد الله والتقى الفريقان بسطيف واقتلوا ثلاثاً‏.‏ ثم انفضت جموع العرب واستلحموا وسبيت نساؤهم واكتسحت أموالهم وأسر أبناؤهم‏.‏ ورجع عبد المؤمن إلى مراكش سنة سبع وأربعين ووفد عليه كبراء العرب من أهل إفريقية طائعين فوصلهم ورجعهم إلى قومهم‏.‏ وعقد على فاس لابنه السيد أبي الحسن واستوزر له يوسف بن سليمان‏.‏ وعقد على تلمسان لابنه السيد أبي حفص واستوزر له أبا محمد بن وانودين‏.‏ وعلى سبتة للسيد أبي سعيد واستوزر له محمد بن سليمان‏.‏ وعلى بجاية للسيد أبي محمد عبد الله‏.‏ واستوزر له يخلف بن الحسين‏.‏ واختص ابنه عبد الله بولاية عهده‏.‏ وتقلب بذلك كله ضمائر عبد العزيز ويحيى أخوي المهدي فلحقا بمراكش مضمرين الغدر وأدخلوا بعض الأوغاد في شأنهم فوثبوا بعمر بن تافراكين وقتلوه بمكانه من القصبة‏.‏ ووصل على أثرهما الوزير أبو جعفر بن عطية وعبد المؤمن على أثره فأطفأ نار تلك الثورة وقتل أخوا المهدي ومن داخلهم فيها والله أعلم‏.‏

 بقية فتح الأندلس

وبلغه بمراكش سنة تسع وأربعين أن يحيى بن يغمور صاحب إشبيلية قتل أهل لبلة بما كان من غدر الوهبي لها ولم يقبل معذرتهم في ذلك فسخط يحيى بن يغمور وعزله عن إشبيلية بأبي محمد عبد الله بن أبي حفص بن علي التينمللي وعن قرطبة بأبي زيد بن بكيت وبعث عبد الله بن سليمان فجاء بابن يغمور معتقلا إلى الحضرة وألزمه منزله إلى أن بعثه مع ابنه السيد أبي حفص إلى تلمسان واستقام أمر الأندلس‏.‏ وخرج ميمون بن يدر اللمتوني عن غرناطة للموحدين فملكوها وأجاز إليها السيد أبو سعيد صاحب سبتة بعهد أبيه عبد المؤمن إليه بذلك‏.‏ ولحق الملثمون بمراكش ونازل السيد أبو سعيد مدينة المرية حتى نزل من كان بها من النصارى على الأمان‏.‏ وحضر لذلك الوزير أبو جعفر بن عطية بعد أن أمدهم ابن مردنيش الثائر بشرق الأندلس والطاغية معه وعجزوا جميعاً عن المدافعة‏.‏ ثم وفد أشياخ إشبيلية سنة إحدى وخمسين ورغبوا من عبد المؤمن ولاية بعض أبنائه عليهم فعقد لابنه السيد أبي يعقوب عليها وافتتح أمره بمنازلة علي الوهبي الثائر بطبرية ومعه الوزير أبو جعفر بن عطية حتى استقام على الطاعة‏.‏ ثم استولى على عمل ابن وزير وابن قسي واستنزل تاشفين اللمتوني من مرتلة سنة اثنتين وخمسين وكان الذي أمكن الملثمين منها ابن قسي واستتم الفتح‏.‏ ورجع السيد إلى إشبيلية وانصرف أبو جعفر بن عطية إلى مراكش فكانت نكبته ومقتله‏.‏ واستوزر عبد المؤمن بعده عبد السلام الكومي كان يمت إليه بذمة صهر فلم يزل على وزارته‏.‏

 بقية فتح إفريقية

لما بلغ عبد المؤمن سنة ثلاث وخمسين ما كان من إيقاع الطاغية بابنه السيد أبي يعقوب بظاهر إشبيلية ومن استشهد من أشياخ الموحدين وحفاظهم ومن الثوار مثل ابن عزون وابن الحجام نهض يريد الجهاد واحتل سلا فبلغه انتقاض إفريقية وأهمه شأن النصارى بالمهدية‏.‏ فلما توافت العساكر بسلا استخلف الشيخ أبا حفص على المغرب وعقد ليوسف بن سليمان على مدينة فاس ونهض يغذ السير حتى نازل المهدية ومن بها من نصارى أهل صقلية فافتتحها صلحاً سنة خمس وخمسين‏.‏ واستنقذ جميع البلاد الساحلية مثل صفاقس وطرابلس من أيدي العدو‏.‏ وبعث ابنه عبد الله من مكان حصاره للمهدية إلى قابس فاستخلصها من يد بني كامل المتغلبين عليها من دهمان بعض بطون رياح‏.‏ واستخلص قفصة من يد بني الورد وزرعة من يد بني بروكسن وطبرقة من يد علال وجبل زغوان من يد بني حماد بن خليفة وشقبنارية من يد بني عياد بن نصر الله‏.‏ ومدينة الأربص من يد ملكها من العرب حسبما ذلك مذكور في أخبار هؤلاء الثوار في دولة صنهاجة‏.‏ ولما استكمل الفتح وثنى عنانه إلى المغرب سنة ست وخمسين بلغه أن الأعراب بإفريقية انتقضوا عليه فرجع إليهم عسكراً من الموحدين فنهضوا إلى القيروان وأوقعوا بالعرب وقتل كبيرهم محرز بن زياد الفارغي من بني علي إحدى بطون رياح‏.‏ أخبار ابن مردنيش الثائر بشرق الأندلس كان بلغ عبد المؤمن وهو بإفريقية أن محمد بن مردنيش الثائر بشرق الأندلس خرج من مرسية ونازل جيان‏.‏ وأطاعه واليها محمد بن علي الكومي‏.‏ ثم نازل بعدها قرطبة ورحل عنها وغدر بقرمونة وملكها ثم رجع إلى قرطبة‏.‏ وخرج ابن بكيت لحربه فهزمه وقتله فكتب إلى عماله بالأندلس بفتح إفريقية وأنه واصل إليهم وعبر البحر إلى جبل الفتح‏.‏ واجتمع إليه أهل الأندلس ومن بها من الموحدين ثم رجع إلى مراكش وبعث عساكره إلى الجهاد ولقيهم الطاغية فهزموه‏.‏ وتغلب السيد أبو يعقوب على قرمونة من يد ابن هشمك صهر ابن مردنيش‏.‏ وكان السيدان أبو يعقوب صاحب إشبيلية وأبو سعيد صاحب غرناطة ارتحلا لزيارة الخليفة بمراكش فخالف ابن همشك إلى مدينة غرناطة وغدر بها ليلا بمداخلة من بعض أهلها‏.‏ واستولى عليها وانحصر الموحدون بقصبتها وخرج عبد المؤمن من مراكش لاستنقاذها فوصل إلى سلا‏.‏ وقدم السيد أبا سعيد فأجاز البحر ولقيه عامل إشبيلية عبد الله بن أبي حفص بن علي ونهضوا جميعاً إلى غرناطة فنهض إليهم ابن همشك وهزمهم‏.‏ ورجع السيد أبو سعيد إلى مالقة وردفه عبد المؤمن بأخيه السيد أبي يعقوب في عساكر الموحدين ونهضوا إلى غرناطة وكان قد وصلها ابن مردنيش في جموع من النصارى مدداً لابن همشك فلقيهم الموحدون بفحص غرناطة وهزموهم‏.‏ وفر ابن مردنيش إلى مكانه من المشرق ولحق ابن همشك بجيان فنازله الموحدون‏.‏ وارتحل السيدان إلى قرطبة فأقاما بها إلى أن استدعى السيد أبو يعقوب إلى مراكش سنة ثمان وخمسين لولاية العهد والإدالة به من أخيه محمد فلحق بمراكش وخرج في ركاب أبيه الخليفة عبد المؤمن لما نهض للجهاد‏.‏ وأدركته المنية بسلا في جمادى الآخرة من هذه السنة وقبر بتينملل إلى جانب المهدي والله أعلم‏.‏